لطالما ظل العطر في الظل، مادة للمتعة أو الترف، لا موضوعا جماليا يستحق الوقوف عنده. الفلاسفة الكبار لم يمنحوا حاسة الشم مكانة تليق بها. أرسطو إستثنى العطر من دائرة الجمال، وكانط وصفه بـ”غير النافع والكريه”، فيما سخر هيغل من حاسة الشم بوصفها غريزية ولا تثير التأمل. إلا أن هذا التصور بدأ يتغير تدريجيا، بعد أن قرر بعض صانعي العطور كسر هذا الحاجز وطرح إبداعاتهم كأعمال فنية مكتملة.
صانع العطور في بداياته لم يكن فنانا. بل كان قريبا من الصيادلة وعلماء النبات، يخلط التركيبات وفق وصفات موروثة. ولكن نقطة التحول جاءت مع مرسوم نابليون عام 1810، الذي فصل العطور عن الطب، مانحا لها إستقلالية فنية. وبعد ذلك، لعبت الإكتشافات الكيميائية في القرن التاسع عشر دورا كبيرا في تحرير العطور من تقليد الطبيعة، لتصبح مجالًا مفتوحًا للتجريب الفني.
جون كلود إلينا، أحد “الأنوف” البارزين لدى دار “هيرمس”، يؤكد أن إدخال المركبات الكيميائية سمح للعطر بالتحول إلى فن تعبيري. وبالفعل، بدأت بعض التركيبات تُستقبل كما تُستقبل الأعمال الفنية. عطر “جاكي” من “غيرلان” عام 1889م مثلًا، حظي بتقدير فني لتجريده وتركيبه غير التقليدي.
وفي هذا السياق، يُعدّ إدمون رودنيتسكا أحد أبرز المدافعين عن العطر كفن راقٍ، رافعًا إياه إلى مصاف الموسيقى والفنون التشكيلية. وضع مفاهيم جمالية للعطر، ورأى فيه عملًا مركّبًا بذكاء، ذا نسبٍ “مفرحة” وشكل “أصيل”، على حد وصفه. هذا التوجه ألهم أجيالًا من صانعي العطور، أبرزهم ماتيلدا لوران، التي تفضّل الحديث عن “عطور عالية” وتقارن إبداعاتها بالأعمال الفنية، معتبرة نفسها “مخترعة” لا مجرّد صانعة تركيبات.
وعلى نفس الخط، ظهر جيل جديد من الفنانين الذين يستخدمون العطر كوسيط فني. ففي التسعينيات، بدأت الرائحة تفرض نفسها في المعارض والمتاحف. أعمال فنية تستخدم الروائح بدل الألوان، أو تمزج بين النحت والعطور، مثل تجارب أنطوان رونار وSophie Calle. كما قامت فنانة مثل Sissel Tolaas بإعادة تكوين روائح الحرب العالمية الأولى، لعرضها في متحف عسكري.
هذه الإتجاهات الجديدة فرضت سؤالًا فلسفيًا وفنيًا: هل يمكن إعتبار العطر فنًّا قائمًا بذاته؟ وهل يستحق صانع العطور لقب “فنان”؟ بعض المحترفين لا يزالون مترددين، مثل دانييلا أندرييه، التي ترى أن العطر لا يمكن أن يُقارن بلوحة أو منحوتة، لكنه يبقى قريبًا من الحسّ الجمالي. في المقابل، يرى آخرون، مثل إلينا وبيير بوردون، أن العطر يمكن أن يكون عملًا فنيًا أصيلًا، إذا اقترن بإبداع حقيقي وحرية تعبير.
اللافت أن المتاحف العالمية بدأت تأخذ العطور على محمل الجد. متحف الفنون والديزاين في نيويورك أنشأ قسمًا خاصًا للفنون الشمية. أما متحف “بازل”، فقد خصّص عام 2015 معرضًا كبيرًا بعنوان “رائحة الفن”. حتى الإتحاد الأوروبي أطلق مشروع “عطر أوروبا” لتوثيق العطور التاريخية.
ولم تتأخر دور العطور الفاخرة عن إستيعاب هذا التحول. فإبتكرت دور مثل “هيرمس” و”كارتييه” مجموعات عطور محدودة الإصدار، ليست للتجارة فقط، بل لعرض إبداعها الفني. وصار التركيز على “السردية” الكامنة خلف العطر، لا على مكوناته وحدها.
حتى زجاجات العطور نفسها تحوّلت إلى قطع فنية. من البلّور المصنوع في “باكارا” إلى تصميمات “رينيه لاليك”، أصبحت الزجاجة عنصرًا جماليًا لا يقل أهمية عن الرائحة التي تحتويها.
وفي النهاية، يبدو أن العطر يشقّ طريقه بثبات نحو الإعتراف به كفن معترف به عالميًا. فمثلما تُمثّل الموسيقى فنًّا زائلًا لكن عميق الأثر، كذلك العطر، بقدرته على التأثير في الذاكرة والحواس، يمكن أن يكون فنًّا معاصرًا جديرًا بالإهتمام، والتأمل، والنقد.


التعليقات مغلقة.